قصص الانبياء - ابن كثير - يوسف عليه السلام
 
يوسف عليه السلام

ذكر ما وقع من الامور العجيبة في حياة إسرائيل فمن ذلك: قصة يوسف بن راحيل وقد أنزل الله عزوجل في شأنه وما كان من أمره سورة من القرآن
العظيم، ليتدبر ما فيها من الحكم والمواعظ والآداب والامر الحكيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " بسم الله الرحمن الرحيم * الر * تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن، وإن كنت من قبله لمن الغافلين ".
قد تكلمنا على الحروف المقطعة في أول تفسير سورة البقرة، فمن أراد تحقيقه فلينظره ثم، وتكلمنا عليه هذه السورة مستقصى في موضعها من التفسير.
ونحن نذكر هاهنا نبذا مما هناك على وجه الايجاز والنجاز.
وجملة القول في هذا المقام: أنه تعالى يمدح كتابه العظيم الذى أنزله على عبده ورسوله الكريم، بلسان عربي فصيح، بين واضح جلى، يفهمه كل عاقل ذكى [ زكى.
فهو أشرف كتاب نزل من السماء، أنزله أشرف الملائكة على أشرف الخلق (1) ] في أشرف زمان ومكان، بأفصح لغة وأظهر بيان.
__________
(1) سقط من ا.
(*)

فإن كان السياق في الاخبار الماضية أو الآتية ذكر أحسنها وأبينها، وأظهر الحق مما اختلف الناس فيه، ودمغ الباطل وزيفه ورده.
وإن كان في الاوامر والنواهي فأعدل الشرائع وأوضح المناهج، وأبين حكما (1) وأعدل حكما.
فهو كما قال تعالى: " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا (2) ".
يعنى صدقا في الاخبار، وعدلا في الاوامر والنواهي.
ولهذا قال تعالى: " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا
إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين " أي بالنسبة إلى ما أوحى إليك فيه.
كما قال تعالى: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا، ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان، ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم * صراط الله الذى له ما في السموات وما في الارض، ألا إلى الله تصير الامور (3) ".
وقال تعالى: " كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق، وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا (4) ".
يعنى من أعرض عن هذا القرآن واتبع غيره من الكتب فإنه يناله
__________
(1) ا: حلما.
(2) من الآية: 115 من سورة الانعام.
(3) آخرو سورة الشورى (4) الآيات: 99 - 11 من سورة طه.
(*)

هذا الوعيد.
كما قال في الحديث المروى في المسند والترمذي عن أمير المؤمنين على، مرفوعا وموقوفا: " من ابتغى (1) الهدى في غيره أضله الله " وقال الامام أحمد: حدثنا سريج (2) بن النعمان، حدثنا هشام، أنبأنا خالد عن الشعبى، عن جابر: أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم قال: فغضب وقال: " أتتهوكون (3) فيها يابن الخطاب ؟ والذى نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه، والذى نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني ".
إسناد صحيح.
ورواه أحمد من وجه آخر عن عمر وفيه: " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذى نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم إنكم حظى من الامم وأنا حظكم من النبيين ".
وقد أوردت طرق هذا الحديث وألفاظه في أول سورة يوسف.
وفى بعضها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته: " أيها الناس إنى قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختصر لى اختصارا، وقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا، ولا يغرنكم المتهوكون ".
ثم أمر بتلك الصحيفة فمحيت حرفا حرفا.
__________
(1) ا: اتبع.
(2) ا: جريج.
(3) تتهوكون: تتحيرون أو تتهورون.
(*)

" إذ قال يوسف لابيه يا أبث إنى رأيت أحد عشر كوكبا.
والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين * قال يا بنى لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا، إن الشيطان للانسان عدو مبين * وكذلك يحتبيك ربك ويعلمك من تأويل الاحاديث، يتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحق إن ربك عليم حكيم " قد قدمنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولدا [ ذكرا ] (1) وسميناهم، وإليهم تنسب أسباط بنى إسرائيل كلهم، وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السلام.
وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبى غيره، وباقى إخوته لم يوح إليهم.
وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة (2) يدل على
هذا القول.
ومن استدل على نبوتهم بقوله: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والاسباط " وزعم أن هؤلاءهم الاسباط فليس استدلاله بقوى، لان المراد بالاسباط شعوب بنى إسرائيل وما كان يوجد فيهم من الانبياء الذين ينزل عليهم الوحى من السماء (3) والله أعلم.
وما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من بين إخوته بالرسالة والنبوة - أنه [ ما (3) ] نص على واحد من إخوته سواه، فدل على ما ذكرناه
__________
(1) ليست في ا.
(2) يريد الخبر المتقدم عن إسحق والعيص.
(3) ليست في ا.
(*)

ويستأنس لهذا بما قال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الرحمن، عن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ".
انفرد به البخاري.
فرواه عن عبد الله بن محمد وعبدة عن عبد الصمد ابن عبد الوارث به.
وقد ذكرنا طرقه في قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته هنا.
ولله الحمد والمنة.
قال المفسرون وغيرهم: رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم، كأن أحد عشر كوكبا، وهم إشارة إلى بقية إخوته، والشمس والقمر وهما عبارة عن أبويه، قد سجدوا له، فهاله ذلك.
فلما استيقظ قصها على أبيه، فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية
ورفعة عظيمة في الدنيا والآخرة، بحيث يخضع له أبواه وإخوته فيها.
فأمره يكتمانها وأن لا يقصها على إخوته ; كيلا (1) يحسدوه ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل [ والمكر ] (2).
وهذا يدل على ما ذكرناه (3).
ولهذا جاء في بعض الآثار: " استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها، فإن كان ذى نعمة محسود ".
وعند أهل الكتاب أنه قصها على أبيه وإخوته معا.
وهو غلط [ منهم ] (4).
__________
(1) ا: لئلا.
(2) ليست في ا.
(3) يريد عدم نبوتهم (*)

" وكذلك يجتبيك ربك " أي وكما أراك هذه الرؤيا العظيمة، فإذا كتمتها " يجتبيك ربك " أي يخصك بأنواع اللطف والرحمة، ويعلمك من تأويل الاحاديث " أي يفهمك من معاني الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمه غيرك.
ويتم نعمته عليك " أي بالوحى إليك " وعلى آل يعقوب " أي بسببك، ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة.
" كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحق " أي ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة، كما أعطاها أباك يعقوب، وجدك إسحق، ووالد جدك إبراهيم الخليل، " إن ربك عليم حكيم " كما قال تعالى: " الله أعلم حيث يجعل رسالته ".
لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الناس أكرم ؟ قال: " يوسف نبى الله ابن نبى الله ابن نبى الله ابن خليل الله ".
وقد روى ابن جرير وابن أبى حاتم في تفسيريهما، وأبو يعلى والبزار
في مسنديهما، من حديث الحكم بن ظهير - وقد ضعفه الائمة - عمن السدى عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود يقال له: بستانة اليهودي، فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التى رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها ؟ قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشئ، ونزل جبريل عليه السلام بأسمائها، قال: فبعث إليه رسول الله فقال: " هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها ؟ " قال: نعم.
فقال: هي جريان والطارق، والذيال، وذو الكتفان، وقابس، ووثاب، وعمودان (1) والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرع.
والضياء والنور ".
__________
(1) ط: عمر دان.
(*)

فقال اليهودي: [ إى (1) ] والله إنها لاسماؤها.
وعند أبى يعلى: فلما قصها على أبيه قال: هذا أمر مشتت يجمعه الله، والشمس أبوه والقمر أمه.
* * * " لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين * إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة، إن أبانا لفى ضلال مبين * اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم، وتكونوا من بعده قوما صالحين * قال قائل منهم: لا تقتلوا يوسف، وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ".
ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم، والدلالات والمواعظ والبينات (2).
ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولاخيه - يعنون شقيقه لامه بنيامين - أكثر منهم، وهم عصبة أي جماعة يقولون: فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين " إن أبانا لفى ضلال مبين "
أي بتقديمه حبهما علينا.
ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع (3) منها، ليخلو لهم وجه أبيهم أي لتتمحض محبته لهم وتتوفر عليهم، وأضمروا التوبة بعد (4) ذلك.
فلما تمالاوا على ذلك وتوافقوا عليه " قال قائل منهم " قال مجاهد: هو شمعون، وقال السدى: هو يهوذا، وقال قتادة ومحمد بن إسحق: هو أكبرهم روبيل: " لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: والبيان.
(3) ا: لا مرجع فيها.
(4) ا: على ذلك.
(*)

بعض السيارة " أي المارة من المسافرين " إن كنتم فاعلين " ما تقولون لا محالة، فليكن هذا الذى أقول لكم، فهو أقرب حالا من قتله أو نفيه وتغريبه.
فأجمعوا رأيهم على هذا، فعند ذلك " قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له الناصحون * أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون * قال إنى ليحزني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون * قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون ".
طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف، وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم، وأن يلعب وينبسط، وقد أضمروا له ما الله به عليم.
فأجابهم الشيخ، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم: يا بنى يشق على أن أفارقه ساعة من النهار، ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه (1)، فيأتى الذئب فيأكله، ولا يقدر على دفعه عنه لصغره
وغفلتكم عنه ".
" قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون " أي لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا، أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة، إنا إذا لخاسرون، أي عاجزون هالكون.
وعند أهل الكتاب: أنه أرسله وراءهم يتبعهم، فضل عن الطريق حتى أرشده رجل إليهم.
وهذا أيضا من غلطهم وخطئهم في التغريب ; فإن يعقوب عليه السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم، فكيف يبعثه وحده.
__________
(1) ا: عليه.
(*)

فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون * وجاءوا أباهم عشاء يبكون * قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب، وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجاءوا على قميصه بدم كذب، قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل * والله المستعان على ما تصفون ".
لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم، فما كان إلا أن غابوا عن عينيه (1)، فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال، وأجمعوا على إلقائه في غيابة الجب، أي في قعره على راعوفته، وهى الصخرة التى تكون في وسطه يقف عليها المائح، وهو الذى ينزل ليملا الدلاء إذا قل الماء، والذى يرفعها بالحبل يسمى الماتح.
فلما ألقوه فيه، أوحى الله إليه: أنه لابد لك من فرج ومخرج من هذه الشدة التى أنت فيها، ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا في حال أنت فيها
عزيز، وهم محتاجون إليك خائفون منك، " وهم لا يشعرون ".
قال مجاهد وقتادة: وهم لا يشعرون بإيحاء الله إليه ذلك.
وعن ابن عباس: " وهم لا يشعرون " أي لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يعرفونك فيها رواه ابن جرير عنه.
فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه، أخذوا قميصه فلطخوه بشئ من دم، ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون، أي على أخيهم.
ولهذا قال بعض السلف: لا يغرنك بكاء المتظلم فرب ظالم وهو باك ! وذكر بكاء إخوة
__________
(1) ا: عينه (*)

يوسف وقد جاءوا أباهم عشاء يبكون، أي في ظلمة الليل ; ليكون أمشى لغدرهم لا لعذرهم.
" قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا " أي ثيابنا " فأكله الذئب " أي في غيبتنا عنه في استباقنا.
وقولهم " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " أي وما أنت بمصدق لمنا في الذى أخبرناك من (1) أكل الذئب له، ولو كنا غير متهمين عندك.
فكيف وأنت تتهمنا في هذا ؟ فإنك خشيت أن يأكله الذئب، وضمنا لك أن لا يأكله لكثرتنا حوله، فصرنا غير مصدقين عندك، فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه.
" وجاءوا على قميصه يدم كذب " أي مكذوب مفتعل ; لانهم عمدوا إلى سخلة (2) ذبحوها، فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه، ليوهموه أن أكله الذئب.
قالوا: ونسوا أن يخرقوه، وآفة الكذب النسيان ! ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يرج صنيعهم على أبيهم ; فإنه كان يفهم
عداوتم له، وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم، لما كان يتوسم فيه من (3) الجلالة والمهابة التى كانت عليه في صغره، لما يريد الله أن يخصه به من نبوته.
ولما راودوه عن أخذه فبمجرد ما أخذوه أعدموه، وغيبوه عن عينيه وجاءوا وهم يتباكون، وعلى ما تمالاوا يتواطاون.
ولهذا " قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل * والله المستعان على ما تصفون ".
__________
(1) ا: في (2) السخلة: ولد الشاة (3) ا من المهابة والجلالة (*)

وعند أهل الكتاب: أن روبيل أشار بوضعه في الجب ليأخذه من حيث لا يشعرون ويرده إلى أبيه، فغافلوه وباعوه لتكل القافلة.
فلما جاء روبيل آخر النهار ليخرج يوسف لم يجده، فصاح وشق ثيابه، وعمد أولئك إلى جدى فذبحوه، ولطخوا من دمه جبة يوسف، فلما علم يعقوب شق ثيابه، ولبس مئزرا أسود وحزن على ابنه أياما كثيرة.
وهذه الركاكة جاءت من خطئهم في التعبير والتصوير.
* * * " وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون * وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين * وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وكذلك مكنا ليوسف في الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون * ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين " يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب: أنه جليس ينتظر
فرج الله ولطفه به، فجاءت سيارة، أي مسافرون.
قال أهل الكتاب: كانت بضاعتهم من (1) الفتسق والصنوبر والبطم (2) قاصدين ديار مصر من الشام، فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر، فلما أدلى أحدهم دلوه تعلق فيه يوسف.
فلما رآه ذلك الرجل " قال يا بشرى " أي يا بشارتى " هذا غلام
__________
(1) ط: في.
(2) البطم: الحبة الخضراء.
(*)

وأسروه بضاعة " أي أوهموا أنه معهم غلام من جملة متجرهم " والله عليم بما يعملون " أي هو عالم بما تمالا عليه إخوته، وبما يسره واجدوه من أنه بضاعة لهم.
ومع هذا لا يغيره تعالى، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة والقدر السابق والرحمة بأهل مصر ; بما (1) يجرى الله على يدى هذا الغلام الذى يدخلها في صورة أسير رقيق، ثم بعد هذا يملكه أزمة الامور وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم، بما لا يحد ولا يوصف.
ولما استشعر إخوة يوسف بأخذ السيارة له لحقوقهم، وقالوا هذا غلامنا أبق منا، فاشتروه منهم بثمن بخس، أي قليل نزر، وقيل هو الزيف " دراهم معدودة وكانوا فيه من لزاهدين ".
قال ابن مسعود وابن عباس ونوف البكالى (2) والسدى وقتادة وعطية العوفى: باعوه بعشرين درهما، اقتسموها درهمين.
وقال مجاهد: اثنان وعشرون درهما.
وقال عكرمة ومحمد بن إسحق: أربعون درهما.
والله أعلم.
" وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه [ أي أحسنى إليه (3) ] " عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا "، وهذا من لطف الله به
ورحمته وإحسانه إليه، بما يريد أن يؤهله له (4) ويعطيه من خيرى الدنيا والآخرة.
قالوا: وكان الذى اشتراه من أهل مصر عزيزها وهو الوزير بها،
__________
(1) ا: فيما.
(2) هو أبو زيد نوف بن فضاله البكالى.
وهو ابن امرأة كعب الاحبار.
تابعي.
اللباب 1 / 137.
(3) ليست في ا.
(4) ا: لذلك.
(*)

الذى الخزائن مسلمة إليه.
قال ابن إسحق: واسمه إطفير ابن روحيب قال: وكان ملك مصر يومئذ الربان بن الوليد رجل من العماليق.
قال: واسم امرأة العزيز: " راعيل " بنت رعاييل.
وقال غيره: كان اسمها " زليخا " والظاهر أنه لقبها.
وقيل " فكا " بنت ينوس (1)، رواه الثعلبي عن ابن هشام الرفاعي.
وقال محمد بن إسحق، عن محمد بن السائب، عن أبى صالح، عن ابن عباس: كان اسم الذى باعه بمصر - يعنى الذى جلبه إليها - مالك ابن زعر بن نويب بن عفقا بن مديان بن إبراهيم.
فالله أعلم.
وقال ابن إسحق عن أبى عبيدة عن ابن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته: " أكرمي مثواه "، والمرأة التى قالت لابيها عن موسى: " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الامين "، وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضى الله عنهما.
ثم قيل: اشتراه العزيز بعشرين دينارا، وقيل بوزنه مسكا ووزنه حريرا
ووزنه ورقا.
فالله أعلم.
وقوله: " وكذلك مكنا ليوسف في الارض " أي وكما قيضنا هذا العزيز وامرأته يحسنان إليه ويعتنيان به مكنا له في أرض مصر " ولنعلمه من تأويل الاحاديث " أي فهمها، وتعبير الرؤيا من ذلك.
" والله غالب على أمره " أي إذا أراد شيئا فإنه يقيض له أسبابا وأمورا لا يهتدى إليها العباد.
ولهذا قال تعالى: " ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
__________
(1) ا: بنت موسن.
(*)

" ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين ".
فدل على أن هذا كله كان وهو قبل بلوغ الاشد، وهو حد الاربعين الذى يوحى الله فيه إلى عباده النبيين، عليهم الصلاة والسلام من رب العالمين وقد اختلفوا في مدة العمر الذى هو بلوغ الاشد: فقال مالك وربيعة وزيد بن أسلم والشعبى: هو الحلم.
وقال سعيد بن جبير: ثمانى عشرة سنة.
وقال الضحاك: عشرون سنة.
وقال عكرمة: خمس وعشرون سنة.
وقال السدى: ثلاثون سنة.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: ثلاث وثلاثون سنة.
وقال الحسن: أربعون سنة، ويشهد له قوله تعالى: " حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ".
* * * " وراودته التى هو في بيتها عن نفسه، وغلقت الابواب وقالت هيت لك.
قال معاذ الله، إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون * ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عبادنا المخلصين * واستبقا الباب وقدت قميصه
من دبر، وألفيا سيدها لدى الباب، قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم * قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر، قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هذا واستغفرى لذنبك إنك كنت من الخاطئين "

يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه وطلبها منه مالا يليق بحاله ومقامه، وهى في غاية الجمال والمال.
والمنصب والشباب.
وكيف غلقت الابواب عليها وعليه، وتهيأت له وتصنعت، ولبست أحسن ثيابها وأفخر لباسها، وهى مع هذا كله امرأة الوزير.
قال ابن إسحق: وبنت أخت [ الملك ] (1) الريان بن الوليد صاحب مصر.
وهذا كله مع أن يوسف عليه السلام شاب بديع الجمال والبهاء، إلا أنه نبى من سلالة الانبياء، فعصمه ربه عن الفحشاء، وحماه عن مكر النساء، فهو سيد السادة النجباء، السبعة الاتقياء، المذكورين في الصحيحين عن خاتم الانبياء، في قوله عليه الصلاة والسلام من رب الارض والسماء: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل معلق قبله بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ما تنفق يمينه، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امراة ذات منصب وجمال فقال إنى أخاف الله ".
والمقصود أنها دعته إليها وحرصت على ذلك أشد الحرص، فقال: " معاذ الله إنه ربى " يعنى زوجها صاحب المنزل سيدى " أحسن مثواى " أي أحسن إلى وأكرم مقامي عنده " إنه لا يفلح الظالمون " وقد تكلمنا على قوله تعالى: " ولقد همت به وهم بها [ لولا أن رأى برهان ربه (1) ] بما فيه كفاية ومقنع في التفسير.
__________
(1) ليست في ا.
(*)

وأكثر أقوال المفسرين هاهنا متلقى من كتب أهل الكتاب، فالاعراض عنه أولى بنا.
والذى يجب أن يعتقد: أن الله تعالى عصمه وبرأه، ونزهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها، ولهذا قال تعالى: " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ".
" واستبقا الباب " أي هرب منها طالبا الباب ليخرج منه فرارا منها فاتبعته في أثره " وألفيا " أي وجدا " سيدها " أي زوجها لدى الباب، فبدرته بالكلام وحرضته عليه، " قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم " اتهمته وهى المتهمة، وبرأت عرضها ونزهت ساحتها.
فلهذا قال يوسف عليه السلام: " هي راودتني عن نفسي "، احتاج إلى أن يقول الحق عند الحاجة.
" وشهد شاهد من أهلها ".
قيل كان صغيرا في المهد.
قاله ابن عباس وروى عن أبى هريرة وهلال بن يساف والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك.
واختاره ابن جرير، وروى فيه حديثا مرفوعا عن ابن عباس، ووقفه غيره عنه.
وقيل كان رجلا قريبا إلى " قطفير " بعلها، وقيل قريبا إليها.
وممن قال إنه كان رجلا: ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والسدى ومحمد بن إسحاق وزيد بن أسلم.
فقال: " إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين " أي لانه يكون قد راودها فدافعته حتى قدت مقدم قميصه.
" وإن كان (21 - قصص الانبياء 1)

قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين " [ أي ] (1) لانه يكون قد هرب منها فاتبعته وتعلقت فيه فانشق قميصه لذلك، وكذلك كان.
ولهذا قال تعالى: " فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم " أي هذا الذى جرى من مكركن، أنت (2) راودتيه عن نفسه، ثم اتهمتيه بالباطل.
ثم أضرب بعلها [ عن هذا (3) ] صفحا فقال: " يوسف أعرض عن هذا " أي لا تذكره لاحد، لان كتمان مثل هذه الامور هو الاليق والاحسن وأمرها بالاستغفار لذنبها الذى صدر منها، والتوبة إلى ربها، فإن العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه.
وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الاصنام إلا أنهم يعلمون أن الذى يغفر الذنوب ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له في ذلك.
ولهذا قال لها بعلها، وعذرها من بعض الوجوه ; لانها رأت ما لا صبر لها على مثله، إلا أنه عفيف نزيه (4) برئ العرض سليم الناحية فقال: " استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ".
* * *
" وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا، إنا لنراها في ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكا، وآتت كل واحدة منهن سكينا، وقالت اخرج
__________
(1) ليست في ا (2) ا: أنت الذى.
(3) ليست في ا (4) ا: نزه.
(*)

عليهن، فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن، وقلن حاش لله ما هذا بشرا، إن هذا إلا ملك كريم * قالت فذلكن الذى لمتننى فيه، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين * قال رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ".
يذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة، من نساء الامراء وبنات الكبراء في الطعن على امرأة العزيز وعيبها، والتشنيع عليها في مراودتها فتاها، وحبها الشديد له، وهو لا يساوي هذا ; لانه مولى من الموالى وليس مثله أهلا لهذا.
ولهذا قلن: " إنا لنراها في ضلال مبين " أي في وضعها الشئ في غير محله.
" فلما سمعت بمكرهن " أي بتشنيعهن عليها والتنقص لها، والاشارة إليها بالعيب والمذمة بحب مولاها وعشق فتاها، فأظهرن ذما وهى معذورة في نفس الامر، فلهذا أحبت أن تبسط عذرها عندهن، وتبين أن هذا الفتى ليس كما حسبن، ولا من قبيل مالديهن.
فأرسلت إليهن فجمعتهن في منزلها، واعتدت لهن ضيافة مثلهن، وأحضرت في جملة ذلك شيئا مما
يقطع بالسكاكين، كالاترج ونحوه، وآتت كل واحدة منهن سكينا، وكانت قد هيأت يوسف عليه السلام، وألبسته أحسن الثياب وهو في غاية طراوة الشباب (1) وأمرته بالخروج عليهن بهذه (2) الحالة، فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة.
__________
(1) ا: وكان في غاية طرازة الشباب.
(2) ا: في هذه.
(*)

" فلما رأينه أكبرنه " أي أعظمنه وأجللنه وهبنه، وما ظنن أن يكون مثلا هذا في بنى آدم، وبهرهن حسنه حتى اشتغلن عن أنفسهن، وجعلن يحززن في أيديهن بتلك السكاكين ولا يشعرن بالجراح، وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم.
وقد جاء في حديث الاسراء: فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطى شطر الحسن ".
قال السهيلي وغيره من الائمة: معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام، لان الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، فكان في غاية نهايات الحسن البشرى.
ولهذا يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم وحسنه.
ويوسف كان على النصف من حسن آدم.
ولم يكن بينهما أحسن منهما ; كما أنه لم تكن أنثى بعد حواء أشبه بها من سارة امرأة الخليل عليه السلام.
قال ابن مسعود: وكان وجه يوسف مثل البرق، وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطى وجهه.
وقال غيره: كان في الغالب مبرقعا لئلا يراه الناس.
ولهذا لما قام عذرن (1) امرأة العزيز في محبتها لهذا المعنى المذكور، وجرى لهن وعليهن ما جرى ; من تقطيع أيديهن بجراح السكاكين، وما ركبهن من المهابة والدهش عند رؤيته ومعاينته.
" قالت فذلكن الذى لمتننى فيه " ثم مدحته بالعفة (2) التامة فقالت: " ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " أي امتنع " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ".
(1) ط: عذر.
(2) ط: بالعصمة.
(*)

وكان بقية النساء حرضنه على السمع والطاعة لسيدته، فأبى أشد الاباء، ونأى لانه من سلالة الانبياء، ودعا فقال في دعائه لرب العالمين: " رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين " يعنى إن وكلتني إلى نفسي، فليس لى من نفسي إلا العجز والضعف، ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله.
فأنا ضعيف إلا ما قويتني وعصمتني وحفظتني، وحطتنى بحولك وقوتك.
ولهذا قال تعالى: " فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم * ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين * ودخل معه السجن فتيان ; قال أحدهما إنى أرانى أعصر خمرا، وقال الآخر إنى أرانى أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه، نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين * قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما، ذلكما مما علمني ربى، إنى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون * واتبعت ملة آبائى إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون * يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن الحكم إلا لله،
أمر ان لا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعملون * يا صاحبي السجن: أما أحدكما فيسقى ربه خمرا، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الامر الذى فيه تستفتيان ".

يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم، أي ظهر لهم من الرأى (1) بعد ما علموا براءة يوسف أن يسجنوه إلى وقت ; ليكون ذلك أقل لكلام الناس في تلك القضية، وأحمد لامرها، وليظهروا أنه راودها عن نفسها فسجن بسببها، فسجنوه ظلما وعدوانا.
وكان هذا مما قدر الله له، ومن جملة ما عصمه به ; فإنه أبعد له عن معاشرتهم ومخالطتهم.
ومن هاهنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعي: أن من العصمة أن لا تجد !.
قال الله: " ودخل معه السجن فتيان ": قيل: كان أحدهما ساقى الملك واسمه فيما قيل " نبوا " والآخر خبازه، يعنى الذى يلى طعامه، وهو الذى يقول له الترك: " الجاشنكير " واسمه فيما قيل " مجلث " وكان الملك قد اتهمهما قى بعض الامور فسجنهما.
فلما رأيا يوسف في السجن أعجبهما سمته (2) وهديه، ودله وطريقته، قوله وفعله، وكثرة عبادته ربه، وإحسانه إلى خلقه، فرأى كل واحد مهما رؤيا تناسبه.
قال أهل التفسير: رأيا في ليلة واحدة.
أما الساقى فرأى كأن ثلاث قضبان من حبلة (3) وقد أورقت وأينعت عناقيد العنب، فأخذها فاعتصرها في كأس الملك وسقاه.
ورأى الخباز على رأسه ثلاث سلال من خبز، وضوارى الطيور تأكل (4) من السل الاعلى.
__________
(1) ا: المرائى.
(2) ا: سيمته.
(3) الحبلة: الكرمة.
(4) ا: تأخذ.
(*)

فقصاها عليه وطلبا منه أن يعبرها لهما وقالا: " إنا نراك من المحسنين " فأخبرهما أنه عليم بتعبيرها خبير بأمرها، " وقال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ".
قيل: معناه مهما رأيتما من حلم فإنى أعبره لكم قبل وقوعه فيكون كما أقول.
وقيل: معناه أنى أخبركما بما يأتيكما من الطعام قبل مجيئه حلوا وحامضا، كما قال عيسى: " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ".
وقال لهما: إن هذا من تعليم الله إياى، لانى مؤمن به موحد له، متبع ملة آبائى الكرام: إبراهيم الخليل وإسحاق ويعقوب.
" ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ، ذلك من فضل الله علينا " أي بأن هدانا لهذا، " وعلى الناس " أي بأن أمرنا أن ندعوهم إليه ونرشدهم وندلهم عليه.
وهو في فطرهم مركوز، وفى جبلتهم مغروز " ولكن أكثر الناس لا يشكرون ".
ثم دعاهم إلى التوحيد وذم عبادة ما سوى الله عزوجل، وصغر أمر الاوثان وحقرها، وضعف أمرها فقال: " يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتوها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن الحكم إلا الله " [ أي المتصرف في خلقه الفعال لما يريد، الذى يهدى من يشاء ويضل من يشاء (1) ] " أمر أن لا تعبدوا إلا إياه " [ أي وحده لا شريك له (1) ] و " ذلك الدين القيم " أي المستقيم والصراط القويم " ولكن أكثر الناس لا يعلمون "
أي فهم لا يهتدون إليه مع وضوحه وظهوره.
__________
(1) سقطت من ا.
(*)

وكانت دعوته لهما في هذا الحال في غاية الكمال ; لان نفوسهما معظمة له، منبعثة على تلقى ما يقول بالقبول، فناسب أن يدعوهما إلى ما هو الانفع لهما مما سألا عنه وطلبا منه.
ثم لما قام بما وجب عليه وأرشد إلى ما أرشد إليه قال: " يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقى ربه خمرا " [ قالوا وهو الساقى (1) ] " وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه " [ قالوا وهو الخباز (1) ] " قضى الامر الذى فيه تستفتيان " أي وقع هذا لا محالة، ووجب كونه على كل حالة.
ولهذا جاء في الحديث: " الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر (2) ; فإذا عبرت وقعت ".
[ وقد روى عن ابن مسعود ومجاهد و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهما قالا: لما نر شيئا فقال لهما: " قضى الامر الذى فيه تستفتيان (3) " ] " وقال للذى ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ".
يخبر تعالى أن يوسف قال للذى ظنه ناجيا منهما وهو الساقى: " اذكرني عند ربك "، يعنى اذكر أمرى وما أنا فيه من السجن بغير جرم عند الملك.
وفى هذا دليل على جواز السعي (4) في الاسباب، ولا ينافى ذلك التوكل على رب الارباب.
وقوله: " فأنساه الشيطان ذكر ربه " أي فأنسى الناجى منهما الشيطان أن يذكر ما وصاه به يوسف عليه السلام.
قاله مجاهد ومحمد بن
__________
(1) سقطت من ا.
(2) ا: ما لم تقص.
(3) سقطت من المطبوعة.
(4) ا: الساعي.
(*)

إسحق وغير واحد.
وهو الصواب، وهو منصوص أهل الكتاب.
" فلبث " يوسف " في السجن بضع سنين ".
والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل إلى السبع، وقيل إلى الخمس، وقيل ما دون العشرة حكاها الثعلبي.
ويقال بضع نشوة وبضعة رجال.
ومنع الفراء استعمال البضع فيما دون العشر.
قال: وإنما يقال نيف وقال الله تعالى: " فلبث في السجن بضع سنين " [ وقال تعالى: " في بضع سنين (1) " ].
وهذا رد لقوله.
قال الفراء: ويقال بضعة عشر وبضعة وعشرون إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة، وبضع وألف.
وخالف الجوهرى فيما زاد على بضعة عشر، فمنع أن يقال بضعة وعشرون إلى تسعين.
وفى الصحيح: " الايمان بضع وستون شعبة، وفى رواية وسبعون شعبة، وأعلاها (2) قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الاذى عن الطريق ".
ومن قال إن الصمير في قوله: " فأنساه الشيطان ذكر ربه " عائد على يوسف فقد ضعف ما قاله، وإن كان قد روى عن ابن عباس وعكرمة.
والحديث الذى رواه ابن جرير في هذا الموضع ضعيف من كل وجه.
تفرد بإسناده إبراهيم بن يزيد الخورى المكى وهو متروك.
ومرسل الحسن وقتادة لا يقبل، ولا هاهنا بطريق الاولى والاحرى.
والله أعلم.
فأما قول ابن حبان في صحيحه، عند ذكر السبب الذى من أجله
لبث يوسف في السجن ما لبث: أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحى، [ حدثنا
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا أرفعها.
(*)

مسدد بن مسرهد، حدثنا خالد بن عبد الله، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله يوسف لولا الكلمة التى قالها " اذكرني عند ربك " ما لبث في السجن ما لبث، ورحم الله لوطا إن كان ليأوى إلى ركن شديد، إذ قال لقومه: " لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد "، قال: فما بعث الله نبيا بعده إلا في ثروة من قومه ".
فإنه حديث منكر من هذا الوجه.
ومحمد بن عمرو بن علقمة له أشياء ينفرد بها وفيها نكارة.
وهذه اللفظة من أنكرها [ وأشدها (1) ] والذى في الصحيحين يشهد بغلطها.
والله أعلم.
* * * " وقال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، يا أيها الملا أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون * قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين * وقال الذى نجا منهما وادكر بعد أمة، أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون.
يوسف أيها الصديق، أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يا بسات، لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون * قال تزرعون سبع سنين دأبا، فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون * ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه
يغاث الناس وفيه يعصرون.
"
__________
(1) ليست في ا.
(*)

هذا كان من جملة أسباب خروج يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام والاكرام، وذلك أن ملك مصر، وهو الريان بن الوليد (1) ابن ثروان بن أراشة بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رأى هذه الرؤيا.
قال أهل الكتاب: رأى كأنه على حافة نهر، وكأنه قد خرج منه سبع بقرات سمان، فجعلن يرتعن في روضة هناك، فخرجت سبع هزال ضعاف من ذلك النهر، فرتعن معهن ثم ملن عليهن فأكلتهن، فاستيقظ مذعورا.
ثم نام فرأى سبع سنبلات خضر في قصبة واحدة، وإذا سبع أخر دقاق يا بسات فأكلنهن، فاستيقظ مذعورا.
فلما قصها على ملئه وقومه لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها، بل " قالوا أضغاث أحلام " أي أخلاط أحلام من الليل، لعلها لا تعبير لها، ومع هذا فلا خبرة لنا بذلك.
ولهذا قالوا: " وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين " فعند ذلك تذكر الناجى منهما، الذى وصاه يوسف بأن يذكره عند ربه فنسيه إلى حينه هذا، وذلك عن تقدير الله عزوجل وله الحكمة في ذلك.
فلما سمع رؤيا الملك، ورأى عجز، الناس عن تعبيرها، تذكر أمر يوسف، وما كان أوصاه به من التذكار.
ولهذا قال تعالى: " وقال الذى نجا منهما وادكر " أي تذكر " بعد أمة " أي بعد مدة من الزمان، وهو بضع سنين.
وقرأ بعضهم
__________
(1) هذه الاسماء والانساب ليست ثابتة ولا مدعمة من التاريخ، وقد كانوا يتكلفون
معرفتها.
وما كان أغناهم.
(*)

كما حكى عن ابن عباس وعكرمة والضحاك: " وادكر بعد أمه " أي بعد نسيان.
وقرأها مجاهد: " بعد أمه " باسكان الميم " وهو النسيان أيضا.
يقال أمه الرجل يأمه أمها وأمها، إذا نسى.
قال الشاعر.
أمهت وكنت لا أنسى حديثا * كذاك الدهر يررى بالعقول فقال لقومه وللملك: أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون " أي فأرسلوني إلى يوسف فجاءه فقال: " يوسف أيها الصديق، أفتنا في سبع بقرات سمان، يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر، أخر يابسات.
لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ".
وعند أهل الكتاب: أن الملك لما ذكره له الساقى، استدعاه إلى حضرته، وقص عليه ما رآه ففسره له.
وهذا غلط.
والصواب ما قصه الله في كتابه القرآن لا ماعربه هؤلاء الجهلة الثيران ; من فرى وهذيان (1).
فبذل يوسف عليه السلام ما عنده من العلم بلا تأخر ولا شرط، ولا طلب الخروج سريعا ; بل أجابهم إلى ما سألوا، وعبر لهم ما كان من منام الملك، الدال على وقوع سبع سنين من الخصب ويعقبها سبع جدب " ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس " يعنى يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية " وفيه يعصرون " يعنى ما كانوا يعصرونه من الاقصاب والاعناب والزيتون والسمسم وغيرها.
فعبر لهم وعلى الخير دلهم، وأرشدهم إلى ما يعتمدونه في حالتى خصبهم وجدبهم، وما يفعلونه من ادخار حبوب سنى الخصب في (2) السبع الاول
__________
(1) الاصل: وريان.
محرفة.
(2) ا: من.
(*)

في سنبله، إلا ما يرصد بسبب الاكل، ومن تقليل البذر في سنى الجدب في السبع الثانية، إذ الغالب على الظن أنه لا يرد البذر من الحقل، وهذا يدل على كمال العلم وكمال الرى والفهم.
* * * " وقال الملك ائتونى به، فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك، فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن أيديهن، إن ربى بكيدهن عليم * قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ؟ قلن حاش الله ما علمنا عليه من سوء، قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين * ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدى كيد الخائنين * وما أبرئ نفسي، إن النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم ربى إن رب غفور رحيم ".
لما أحاط الملك علما بكمال [ علم (1) ] يوسف عليه الصلاة والسلام، وتمام عقله، ورأيه السديد وفهمه، أمر بإحضاره إلى حضرته ; ليكون من جملة خاصته.
فلما جاءه الرسول بذلك، أحب أن لا يخرج حتى يتبين لكل أحد أنه حبس ظلما وعدوانا، وأنه برئ الساحة مما نسبوه إليه بهتانا.
" قال ارجع إلى ربك " يعنى الملك " فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن أيهديهن، إنى ربى بكيدهن عليم " قيل معناه: إن سيدى العزيز يعلم برأتي مما نسب إلى ; أي فمر الملك فليسألهن: كيف [ كان (1) ] امتناعي الشديد عند مراودتهن إياى ؟ وحثهن لى على الامر الذى ليس برشيد ولا سديد ؟
__________
(1) ليست في ا.
(*)

فلما سئلن عن ذلك اعترفن بما وقع من الامر، وما كان منه من الامر الحميد و " قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ".
فعند ذلك " قالت امرأة العزيز " وهى زليخا: " الآن حصحص الحق " أي ظهر وتبين ووضح، والحق احق أن يتبع.
" أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين " أي فيما يقوله ; ومن أنه برئ وأنه لم يراودني، وأنه حبس ظلما وعدوانا، وزورا وبهتانا.
وقوله: " ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدى كيد الخائنين " قيل إنه من كلام يوسف، أي إنما طلبت تحقيق هذا ليعلم العزيز أنى لم أخنه بظهر الغيب.
وقيل إنه من تمام كلام زليخا، أي إنما اعترفت بهذا ليعلم زوجي أنى لم أخنه في نفس الامر، وإنما كان مراودة لم يقع معها فعل فاحشة.
وهذا القول هو الذى نصره طائفة كثيرة من أئمة المتأخرين وغيرهم.
ولم يحك ابن جرير وابن أبى حاتم سوى الاول.
" وما أبرئ نفسي إن النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم إن ربى غفور رحيم " ; قيل إنه من كلام يوسف، وقيل من كلام زليخا، وهو مفرع على القولين [ الاولين (1) ] وكونه من تمام كلام زليخا أظهر وأنسب وأقوى.
والله أعلم.
* * * " وقال الملك ائتونى به استخلصه لنفسي، فلما كلمه قال إنك اليوم
__________
ليست في ا.
(*)

لدينا مكين أمين * قال اجعلني على خزائن الارض إنى حفيظ عليم * وكذلك مكنا ليوسف في الارض، يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء، ولا نضيع أجر المحسنين * ولاجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ".
لما ظهر للملك براءة عرضه، ونزاهة ساحته عما كانوا أظهروا عنه مما نسبوه إليه، " قال ائتونى به أستخلصه لنفسي " أي أجعله من خاصتي، ومن أكابر دولتي، ومن أعيان حاشيتي، فلما كلمه وسمع مقاله وتبين حاله " قال إنك اليوم لدينا مكين أمين " أي ذو مكانة وأمانة.
قال اجعلني على خزائن الارض إنى حفيظ عليم " طلب أن يوليه النظر فيما يتعلق بالاهراء (1)، لما يتوقع من حصول الخلل فيها (2) بعد مضى سبع سنى الخصب، لينظر فيها بما يرضى الله في خلقه، من الاحتياط لهم والرفق بهم، وأخبر الملك أنه حفيظ، أي قوى على حفظ ما لديه، أمين عليه، عليم بضبط الاشياء ومصالح الاهراء.
وفى هذا دليل على جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الامانة والكفاءة.
وعند أهل الكتاب: أن فرعون عظم يوسف عليه السلام جدا، وسلطه على جميع أرض مصر، وألبسه خاتمه، وألبسه الحرير وطوقع الذهب وحمله على مركبه الثاني، ونودى بين يديه: أنت رب ومسلط، وقال له: لست أعظم منك إلا بالكرسي.
قالوا: وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة، وزوجه امرأة عظيمة
__________
(1) الاهراء: خزائن الطعام.
(2) ط: فيما بعد.
(*)

الشأن.
وحكى الثعلبي أنه عزل قطفير عن وظيفته (1) وولاها يوسف.
وقيل إنه لما مات زوجه امرأته زليخا فوجدها عذراء، لان زوجها كان لا يأتي النساء، فولدت ليوسف عليه السلام رجلين وهما: أفرايم (1) ومنسا.
قال: واستوثق ليوسف ملك مصر، وعمل فيهم بالعدل فأحبه الرجال والنساء.
وحكى أن يوسف كان يوم دخل على الملك عمره ثلاثين سنة، وأن الملك خاطبه بسبعين لغة، وفى كل (2) ذلك يجاوبه بكل لغة منها، فأعجبه ذلك مع حداثة سنه.
فالله أعلم.
قال الله تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوأ منها حيث يشاء " أي بعد السجن والضيق والحصر، صار مطلق الركاب بديار مصر، " يتبوأ منها حيث يشاء " أي أين شاء حل منها مكرما محسودا معظما.
" نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين " [ من أي (3) ] هذا كله من جزاء الله وثوابه للمؤمن، مع ما يدخر له في آخرته من الخير الجزيل والثواب الجميل.
ولهذا قال ": ولاجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ".
ويقال إن قطفير زوج زليخا كان قد مات، فولاه الملك مكانه وزوجه امرأته زليخا، فكان وزير صدق.
__________
(1) ا: أفريثم.
(2) ا: وكل.
(3) من: ا (*)

وذكر محمد ابن إسحق أن صاحب مصر - الوليد بن الريان - أسلم على يدى يوسف عليه السلام.
فالله أعلم.
وقد قال بعضهم: وراء مضيق الخوف متسع الامن * وأول مفروح به غاية الحزن (1)
فلا تيأسن، فالله ملك يوسفا * خزائنه بعد الخلاص من السجن * * * " وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون * ولما جهزهم بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم، الا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين * فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون * قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون * وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ".
يخبر تعالى عن قدوم إخوة يوسف عليه السلام إلى الديار المصرية يمتارون طعاما، وذلك بعد إتيان سنى الجدب وعمومها على سائر العباد والبلاد.
وكان يوسف عليه السلام إذ ذاك الحاكم في أمور الديار المصرية دينا ودنيا.
فلما دخلوا عليه عرفهم ولم يعرفوه ; لانهم لم يخطر ببالهم ما صار إليه يوسف عليه السلام من المكانة والعظمة، فلهذا عرفهم وهم له منكرون.
وعند أهل الكتاب: انهم لما قدموا عليه سجدوا له فعرفهم، وأراد أن لا يعرفوه فأغلظ لهم في القول، وقال: أنتم جواسيس، جئتم [ لنا ] (2)
__________
(1) ا: آخر الحزن.
(2) من ا.
(م 22 - قصص الانبياء 1) (*)

لتأخذوا خير بلادي.
فقالوا: معاذ الله ; إنما جئنا نمتار (1) لقومنا من الجهد والجوع الذى أصابنا، ونحن بنوأب واحد من كنعان، ونحن اثنا عشر رجلا ذهب منا واحد، وصغيرنا عند أبينا.
فقال لابد أن أستعلم أمركم.
وعندهم: أنه حبسهم ثلاثة أيام ثم أخرجهم، واحتبس شمعون عنده
ليأتوه بالاخ الآخر.
وفى بعض هذا نظر.
قال الله تعالى: " فلما جهزهم بجهازهم " أي أعطاهم من الميرة ما جرت به عادته ; من إعطاء كل إنسان حمل بعير لا يزيده عليه " قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم "، وكان قد سألهم عند حالهم، وكم هم ؟ فقالوا: كنا اثنى عشر رجلا، فذهب منا واحد وبقى شقيقه عند أبينا.
فقال: إذا قدمتم من العام المقبل فأتوني به معكم.
" ألا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين ؟ " أي قد أحسنت نزلكم وقراكم، فرغبهم ليأتوه [ به (2) ] ثم رهبهم إن لم يأتوه به فقال (3) " فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون " أي فلست أعطيكم ميرة، ولا أقربكم بالكلية، عكس ما أسدى إليهم أولا.
فاجتهد (4) في إحضاره معهم ليبل شوقه منه بالترغيب والترهيب.
" قالوا سنراود عنه أباه " أي سنجتهد في مجيئه معنا وإتيانه إليك بكل ممكن.
" وإنا لفاعلون " أي وإنا لقادرون على تحصيله.
ثم أمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم وهى ما جاءوا به يتعوضون به
__________
(1) ا: لنتمار.
(2) ليست في ا.
(3) ا: قال.
(4) ا: فاجتهدوا.
(*)

عن الميرة، في أمتعتهم من حيث لا يشعرون بها " لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ".
قيل أراد أن يردوها إذا وجدوها في بلادهم، وقيل خشى أن لا يكون عندهم ما يرجعون به مرة ثانية وقيل تذمم أن يأخذ منهم عوضا عن الميرة.
وقد اختلف المفسرون في بضاعتهم على أقوال سيأتي ذكرها.
وعند
أهل الكتاب: أنها كانت صررا من ورق، وهو أشبه.
والله أعلم.
* * * " فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل، فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون * قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ؟ فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين * ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم، قالوا يا أبانا ما نبغى ؟ هذه بضاعتنا ردت إلينا، ونمير أهلنا ونحفظ أخانا، ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير * قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم، فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل * وقال يا بنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة، وما أغنى عنكم من الله من شئ، إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شئ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها، وإنه لذو علم لما علمناه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".
يذكر تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم [ إلى أبيهم ] (1)
__________
(1) ليست في ا.
(*)

وقولهم له: " منع منا الكيل " [ أي بعد عامنا هذا (1) ] إن لم ترسل معنا (2) أخانا، فإن أرسلته معنا لم يمنع منا.
" ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغى ؟ " أي شئ نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا ؟ " ونمير أهلنا " أي نمتار لهم ونأتيهم بما يصلحهم في سنتهم ومحلهم، " ونحفظ أخانا ونزداد " بسببه
" كيل بعير ".
قال الله تعالى: " ذلك كيل يسير " أي في مقابلة ذهاب ولده الآخر.
وكان يعقوب عليه السلام أضن شئ بولده بنيامين ; لانه كان يشم فيه رائحة أخيه ويتسلى به عنه، ويتعوض بسببه منه.
فلهذا قال: " لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم " أي إلا أن تغلبوا كلكم عن الاتيان به.
" فلما آتوه موثقهم، قال الله على ما نقول وكيل ".
أكد المواثيق وقرر العهود، واحتاط لنفسه في ولده، ولن يغنى حذر من قدر ! ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة، لما بعث الولد العزيز، ولكن الاقدار لها أحكام، والرب تعالى يقدر ما يشاء ويختار ما يريد، ويحكم ما يشاء وهو الحكيم العليم.
ثم أمرهم أن لا يدخلوا المدينة من باب واحد، ولكن ليدخلوا من أبواب متفرقة.
قيل: أراد أن لا يصيبهم أحد بالعين، وذلك لانهم كانوا
__________
(1) ليست في ا (2) ا: فأرسل معنا أخانا.
(*)

أشكالا حسنة وصورا بديعة.
قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وقتادة والسدى والضحاك.
وقيل: أراد أن يتفرقوا لعلهم يجدون خبرا ليوسف أو يحدثون عنه بأثر.
قاله إبراهيم النخعي.
والاول أظهر.
ولهذا قال: " وما أغنى عنكم من الله من شئ ".
وقال تعالى: " ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شئ، إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها، وإنه لذو علم
لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".
وعند أهل الكتاب: أنه بعث معهم هدية إلى العزيز من الفستق واللوز والصنوبر والبطم والعسل، وأخذوا الداراهم الاولى وعرضا (1) آخر.
" فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه، قال إنى أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون * فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون * قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون ؟ * قالوا نفقد صواع الملك، ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم * قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض وما كنا سارقين * قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ؟ قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه، كذلك نجزى الظالمين * فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، ثم استخرجها من وعاء أخيه، كذلك كدنا ليوسف، ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله، نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذى علم عليم *
__________
(1) ا: وعوضوا آخر.
(*)

قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم، قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون * قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه، إنا نراك من المحسنين * قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، إنا إذا لظالمون ".
يذكر تعالى ما كان من أمرهم حين دخلوا بأخيهم بنيامين على شقيقه يوسف، وإيوائه إليه، وإخباره له سرا عنهم بأنه أخوه، وأمره بكتم ذلك عنهم.
وسلاه عما كان منهم من الاساءة إليه.
ثم احتال على أخذه منهم وتركه إياه عنده دونهم، فأمر فتيانه
بوضع سقايته، وهى التى كان يشرب بها ويكيل بها للناس الطعام، عن غرة (1) في متاع بنيامين، ثم أعلمهم بأنهم قد سرقوا صواع الملك، ووعدهم جعالة على رده، حمل بعير، وضمنه المنادى لهم.
فأقبلوا على من اتهمهم بذلك فأنبوه وهجنوه فيما قاله لهم: " قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض وما كنا سارقين " يقولون: أنتم تعلمون [ منا ] (2) خلاف ما رميتمونا به من السرقة.
" قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين * قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى الظالمين " [ وهذه كانت شريعتهم: أن السارق يدفع إلى المسروق منه.
ولهذا قالوا: " كذلك نجزى الظالمين " (2) ].
قال الله تعالى: " فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه " ليكون [ ذلك (2) ] أبعد للتهمة وأبلغ في الحيلة، [ ثم (2) قال
__________
(1) ا: عن غرته.
(2) ليست في ا.
(*)

الله تعالى: " كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك " أي لولا اعترافهم بأن جزاءه من وجد في رحله فهو جزاؤه، لما كان يقدر يوسف على أخذه منهم في سياسة ملك مصر، " إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء " أي في العلم " وفوق كل ذى علم عليم ".
وذلك لان يوسف كان أعلم منهم، وأتم رأيا وأقوى عزما وحزما، وإنما فعل ما فعل عن أمر الله له في ذلك ; لانه يترتب على هذا الامر مصلحة عظيمة بعد ذلك: من قدوم أبيه وقومه عليه ووفودهم إليه.
فلما عاينوا استخراج الصواع من حمل بنيامين " قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل " يعنون يوسف.
قيل كان قد سرق صنم جده
أبى أمه فكسره.
وقيل كانت عمته قد علقت عليه بين ثيابه وهو صغير منطقة كانت لاسحق، ثم استخرجوها من بين ثيابه وهو لايشعر بما صنعت، وانما أرادت أن يكون عندها وفى حضانتها لمحبتها له.
وقيل كان يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء.
وقيل غير ذلك.
فلهذا: " قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه " وهى كلمته بعدها، وقوله: " أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون " أجابهم سرا لا جهرا، حلما وكرما وصفحا وعفوا، فدخلوا معه في الترفق والتعطف فقالوا: " يا أيها العزيز إن له أبا شيخ كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين * قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، إنا إذا لظالمون " أي إن أطلقنا المتهم وأخذنا البرئ، وهذا مالا نفعله ولا نسمح به، وإنما نأخذ من وجدنا متاعنا عنده.

وعند أهل الكتاب: أن يوسف تعرف إليهم حينئذ.
وهذا مما غلطوا فيه ولم يفهموه جيدا (1).
" فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا، قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله، ومن قبل ما فرطتم في يوسف، فلن أبرح الارض حتى يأذن لى أبى، أو يحكم الله لى وهو خير الحاكمين * ارجعوا إلى ابيكم فقولوا: يا أبانا إن ابنك سرق، وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين * واسأل القرية التى كنا فيها، والعير التى أقبلنا فيها، وإنا لصادقون * قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا، فصبر جميل ; عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم * وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم * قالوا تالله
تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين * قال إنما أشكو بثى وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون * يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ".
يقول تعالى مخبرا عنهم لما استيأسوا من أخذه منه: خلصوا يتناجون فيما بينهم، قال كبيرهم وهو روبيل: " ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله "، لتأتينى به إلا أن يحاط بكم ؟ لقد أخلفتم عهده، وفرطتم فيه كما فرطتم في أخيه يوسف من قبله، فلم يبق لى وجه أقابله به " فلن أبرح الارض " أي لا أزال مقيما هاهنا " حتى يأذن لى
__________
(1) ا: جدا.
(2) ا: معهم.
(*)
أبى " في القدوم عليه ؟ " أو يحكم الله لى " بأن يقدرني على رد أخى إلى أبى، " وهو خير الحاكمين ".
" ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق " أي أخبروه بما رأيتم من الامر في ظاهر المشاهدة " وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين * واسأل القرية التى كنا فيها والعير التى أقبلنا فيها "، أي فإن هذا الذى أخبرناك [ به ] (1) - من أخذهم أخانا لانه سرق - أمر اشتهر بمصر وعلمه العير التى كنا نحن وهم هناك، " وإنا لصادقون " " قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل " أي ليس الامر كما ذكرتم، لم يسرق فإنه ليس سجية له ولا خلقه.
وإنما " سولت لكم أنفسكم أمرا، فصبر جميل ".
قال ابن إسحق وغيره: لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتبا على
صنيعهم (2) في يوسف قال لهم ما قال.
وهذا كما قال بعض السلف: إن من جزاء السيئة السيئة بعدها ! ثم قال: " عسى الله أن يأتيني بهم جميعا " يعنى يوسف وبنيامين وروبيل، " إنه هو العليم " أي بحالى وما أنا فيه من فراق الاحبة " الحكيم " فيما يقدره ويفعله، وله الحكمة البالغة والحجة القاطعة.
" وتولى عنهم " أي أعرض عن بنيه " وقال يا أسفى على يوسف " ذكره حزنه الجديد بالحزن القديم، وحرك ما كان كامنا، كما قال بعضهم:
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: صنعهم.
(*)

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى * ما الحب إلا للحبيب الاول وقال آخر: لقد لامنى عند القبور على البكا * رفيقي لتذراف الدموع السوافك (1) فقال: أتبكى كل قبر رأيته ؟ * لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك (2) فقلت له: إن الاسى يبعث الاسى * فدعني فهذا كله قبر مالك وقوله: " وابيضت عيناه من الحزن " أي من كثرة البكاء.
" فهو كظيم " أي مكظم (3) من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف.
فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق " قالوا " له على وجه الرحمة له والرأفة به والحرص عليه " تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ".
يقولون: لا تزال تتذكره (4) حتى ينحل جسدك وتضعف قوتك، فلو رفقت بنفسك كان أولى بك.
" قال إنما أشكو بثى وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون "
يقول لبنيه: لست أشكو إليكم ولا إلى أحد من الناس ما أنا فيه، إنما أشكوه إلى الله عز وجل، وأعلم أن الله سيجعل لى مما أنا فيه فرجا ومخرجا، وأعلم أن رؤيا يوسف لابد أن تقع، ولابد أن أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى.
ولهذا قال: " وأعلم من الله مالا تعلمون "
__________
(1) السوافك: المذروفة المنصبة.
(2) اللوى: ما التوى من الرمل.
والدكادك: ما استوى منه وتلبد.
(3) ا: مكمد.
(4) ا: تذكره.
(*)

ثم قال لهم محرضا على تطلب يوسف وأخيه، وأن يبحثوا عن أمرهما: " يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " أي لا تيأسوا من الفرج بعد الشدة، فإنه لا ييأس من روح الله وفرجه، وما يقدره من المخرج في المضايق، إلا القوم الكافرون.
* * * " فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وجئنا ببضاعة مزجاة، فأوف لنا الكيل وتصدق علينا، إن الله يجزى المتصدقين * قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون * قالوا أئنك لانت يوسف، قال أنا يوسف وهذا أخى، قد من الله علينا، إنه من يتق ويصبر، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين * قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين * قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين * اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا، وأتوني بأهلكم أجمعين ".
يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه وقدومهم عليه، ورغبتهم فيما لديه من الميرة، والصدقة عليهم برد أخيهم بنيامين إليهم: " فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر " أي من الجدب وضيق الحال وكثرة العيال، " وجئنا ببضاعة مزجاة " أي ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن تتجاوز عنا.
قيل كانت دراهم رديئة، وقيل قليلة، وقيل حب الصنوبر وحب البطم ونحو ذلك.
وعن ابن عباس: كانت خلق الغرائر والحبال ونحو ذلك.

" فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزى المتصدقين ".
قيل بقبولها، قاله السدى.
وقيل برد أخينا إلينا، قاله ابن جريج.
وقال سفيان بن عيينة: إنما حرمت الصدقة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم [ ونزع (1) ] بهذه الآية.
رواه ابن جرير.
فلما رأى ما هم فيه من الحال وما جاءوا به مما لم يبق عندهم سواه من ضعيف المال، تعرف إليهم وعطف عليهم، قائلا لهم عن أمر ربه وربهم، وقد حسر لهم عن جبينه الشريف، وما يحويه من الحال الذى يعرفون فيه: " هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ".
" قالوا " وتجبوا كل العجب، وقد ترددوا إليه مرارا عديدة وهم لا يعرفون أنه هو: " أئنك لانت يوسف ؟ ".
" قال أنا يوسف وهذا أخى ".
يعنى أنا يوسف الذى صنعتم معه ما صنعتم، وسلف من أمركم فيه ما فرطتم.
وقوله: " وهذا أخى " تأكيد لما قال، وتنبيه على ما كانوا أضمروا لهما من الحسد، وعملوا في أمرهما من الاحتيال.
ولهذا قال: " قد من الله علينا " أي بإحسانه
إلينا وصدقته علينا، وإيوائه لنا وشده معاقد عزنا، وذلك بما أسلفنا من طاعة ربنا، وصبرنا على ماكان منكم إلينا، وطاعتنا وبرنا لابينا، ومحبته الشديدة لنا وشفقته علينا.
" إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ".
__________
(1) سقطت من ا.
(*)

" قالوا تالله لقد آثرك الله علينا " أي فضلك وأعطاك ما لم يعطنا، " وإن كنا لخاطئين " أي فيما أسدينا إليك، وها نحن بين يديك.
" قال لاتثريب عليكم اليوم " أي لست أعاتبكم (1) على ماكان منكم بعد يومكم هذا.
ثم زادهم على ذلك فقال: " يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " ومن زعم أن الوقف على قوله " لاتثريب عليكم " وابتدأ بقوله: " اليوم يغفر الله لكم " فقوله ضعيف والصحيح الاول.
ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه، وهو الذى يلى جسده، فيضعوه على عينى أبيه، فإنه يرجع إليه بصره بعد ماكان ذهب، بإذن الله.
وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وأكبر المعجزات.
ثم أمرهم أن يتحملوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر، إلى الخير والدعة وجمع الشمل بعد الفرقة، على أكمل الوجوه وأعلى الامور.
" فلما فصلت العير قال أبوهم إنى لاجد ريح يوسف لولا أن تفندون * قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم * فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا، قال ألم أقل لكم إنى أعلم من الله مالا تعلمون * قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين * قال سوف أستغفر لكم ربى إنه هو الغفور الرحيم ".
قال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل، عن أبى سنان، عن عبد الله بن أبى الهذيل، سمعت ابن عباس يقول: " فلما فصلت العير " قال: لما
__________
(1) ط: أعاقبكم.
(*)

خرجت العير هاجت ريح، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال: " إنى لاجد ريح يوسف لولا أن تفندون ".
قال: فوجد ريحه من مسيرة ثلاثة (1) أيام.
وكذا رواه الثوري وشعبة وغيرهم عن أبى سنان (2) به.
وقال الحسن البصري وابن جريج المكى: كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخا، وكان له (3) منذ فارقه ثمانون سنة.
وقوله: " لولا أن تفندون " أي تقولون إنما قلت هذا من الفند، وهو الخرف (4) وكبر السن.
قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: " تفندون " تسفهون.
وقال مجاهد أيضا والحسن: تهرمون.
" قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم " قال قتادة والسدى: قالوا له كلمة غليظة.
قال الله تعالى: " فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا " أي بمجرد ما جاء ألقى القميص على وجه يعقوب فرجع من فوره بصيرا بعد ماكان ضريرا.
وقال لبنيه عند (5) ذلك: " ألم أقل لكم إنى أعلم من الله مالا تعلمون " أي أعلم أن الله سيجمع شملى بيوسف، وستقر عينى به، وسيرينى فيه ومنه ما يسرني.
فعند ذلك " قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ".
__________
(1) ط: ثمانية أيام.
(2) ا: عن أبى سعيد (3) ا: وكان له عنه.
(4) ا: وهو الحزن.
(5) ا: بعد ذلك.
(*)

طلبوا منه أن يستغفر لهم الله عزوجل عما كانوا فعلوا ونالوا منه ومن ابنه، وما كانوا عزموا عليه، ولما كان من نيتهم التوبة قبل الفعل، وفقهم الله للاستغفار عند وقوع ذلك منهم.
فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا، وما عليه عولوا قائلا: " سوف أستغفر لكم ربى إنه هو الغفور الرحيم ".
قال ابن مسعود وإبراهيم التيمى وعمرو بن قيس وابن جريج وغيرهم: أرجأهم إلى وقت السحر.
قال ابن جرير: حدثنى أبو السائب، حدثنا ابن إدريس [ قال (1) ]: سمعت عبد الرحمن بن إسحق يذكر عن محارب ابن دثار قال: كان عمر (2) يأتي المسجد فسمع إنسانا يقول: " اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا السحر فاغفر لى " قال: فاستمع إلى الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود، فسأل عبد الله عن ذلك فقال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله: " سوف أستغفر لكم ربى ".
وقد قال الله تعالى: " والمستغفرين بالاسحار ".
وثبت في الصحيحين (3) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ ".
وقد ورد في حديث: " أن يعقوب أرجأ بنيه إلى ليلة الجمعة ".
قال ابن جرير: حدثنى المثنى ; قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب (4) الدمشقي، حدثنا الوليد، أنبأنا ابن جريج، عن عطاء وعكرمة
__________
(1) سقطت من ا (2) المطبوعة: كان عم لى.
وهو تحريف (3) ط: في الصحيح.
(4) ا: ابن أيوب.
(*)

عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سوف أستغفر لكم ربى " يقول: " حتى ليلة الجمعة، وهو قول أخى يعقوب لبنيه ".
وهذا غريب من هذا الوجه، وفى رفعه نظر.
والاشبه أن يكون موقوفا على ابن عباس رضى الله عنهما.
* * * " فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين * ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا، وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ; قد جعلها ربى حقا، وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن، وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى، إن ربى لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم * رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث، فاطر السموات والارض أنت وليى في الدنيا والآخرة، توفنى مسلما وألحقني بالصالحين ".
هذا إخبار عن حال اجتماع المتحابين بعد الفرقة الطويلة، التى قيل إنها ثمانون سنة ! وقيل ثلاث وثمانون سنة، وهما روايتان عن الحسن وقيل خمس وثلاثون سنة.
قاله قتادة.
وقال محمد بن إسحاق: ذكروا أنه غاب عنه ثمانى عشرة سنة.
قال: وأهل الكتاب يزعمون (1) أنه غاب عنه أربعين سنة.
وظاهر سياق القصة يرشد إلى تحديد المدة تقريبا ; فإن المرأة راودته وهو شاب ابن سبع عشرة سنة، فيما قاله غير واحد، فامتنع.
فكان
__________
(1) ا: يدعون.
(*)

في السجن بضع سنين ; وهى سبع عند عكرمة وغيره.
ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع، ثم [ لما (1) ] أمحل الناس في السبع البواقى، جاء إخوته يمتارون في السنة الاولى وحدهم، وفى الثانية ومعهم أخوه (2) [ بنيامين (3) ] وفى الثالثة تعرف إليهم وأمرهم بإحضار أهلهم أجمعين، فجاءوا كلهم.
" فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه " واجتمع بهما خصوصا وحدهما دون إخوته، " وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ".
قيل هذا من المقدم والمؤخر ; تقديره [ قال (3) ]: ادخلوا، مصر وآوى إليه أبويه.
وضعفه ابن جرير وهو معذور.
وقيل [ بل (3) ] تلقاهما وآواهما في منزل الخيام، ثم لما اقتربوا من باب مصر " قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين "، قاله السدى ولو قيل إن الامر لا يحتاج إلى هذا أيضا، وإنه ضمن قوله ادخلوا، بمعنى اسكنوا مصر، أو أقيموا بها، " إن شاء الله آمنين " لكان صحيحا مليحا أيضا.
وعند أهل الكتاب: أن يعقوب لما وصل إلى أرض جاشر - وهى أرض بلبيس - خرج يوسف لتلقيه، وكان يعقوب قد بعث ابنه يهوذا بين يديه مبشرا بقدومه، وعندهم أن الملك أطلق لهم أرض جاشر ; يكونون فيها، ويقيمون بها بن عمهم ومواشيهم.
و [ قد (4) ] ذكر جماعة من المفسرين: أنه لما أزف قدوم نبى الله يعقوب - وهو إسرائيل - [ أراد يوسف (4) ] أن يخرج لتلقيه، فركب معه الملك وجنوده ; خدمة ليوسف
__________
(1) سقطت من ا.
(2) ا: أخوهم.
(3) من ا.
(4) سقطت من ا.
(23 - قصص الانبياء 1) (*)

وتعظيما لنبى الله " إسرائيل " وأنه دعا للملك، وأن الله رفع عن أهل مصر بقية سنى الجدب ببركة قدومه إليهم.
فالله أعلم.
وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم - فيما قاله أبو إسحاق السبيعى عن أبى عبيدة عن ابن مسعود - ثلاثة وستين إنسانا.
وقال موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد: كانوا ثلاثة وثمانين إنسانا.
وقال أبو إسحاق عن مسروق: دخلوا وهم ثلاثمائة وتسعون إنسانا.
قالوا: وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل وفى نص (1) أهل الكتاب: أنهم كانوا سبعين نفسنا وسموهم.
* * * قال الله تعالى: " ورفع أبوبه على العرش " قيل: كانت أمه قد ماتت كما هو عند علماء التوراة.
وقال بعض المفسرين: أحياها الله تعالى.
وقال آخرون: بل كانت خالته " ليا " والخالة بمنزلة الام.
وقال ابن جرير وآخرون: بل ظاهر القرآن يقتضى بقاء حياة أمه إلى يومئذ، فلا يعول على نقل أهل الكتاب فيما خالفه.
وهذا قوى والله أعلم.
ورفعهما على العرش، أي أجلسهما [ معه (2) ] على سريره، " وخروا له سجدا " أي سجد له الابوان والاخوة الاحد عشر، تعظيما وتكريما.
وكان هذا مشروعا لهم، ولم يزل ذلك معمولا به في سائر الشرائع حتى حرم في ملتنا.
__________
(1) ا: ونص أهل الكتاب.
(2) ليست في ا (*)

" وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل " أي هذا تعبير ماكنت قصصته عليك: من رؤيتي الاحد عشر كوكبا والشمس والقمر، حين رأيتهم لى ساجدين، وأمرتني بكتمانها، ووعدتني [ ما وعدتني (1) ] عند ذلك " قد جعلها ربى حقا، وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن " أي بعد الهم والضيق، جعلني حاكما نافذ الكلمة في الديار المصرية حيث شئت.
" وجاء بكم من البدو " أي البادية.
وكانوا يسكنون أرض العربات من بلاد الخيل " من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى " أي فيما كان منهم إلى من الامر الذى تقدم وسبق ذكره.
ثم قال: " إن ربى لطيف لما يشاء " أي إذا أراد شيئا هيأ أسبابه، ويسرها وسهلها من وجوه لا يهتدى إليها العباد، بل يقدرها ويبسرها بلطيف صنعه وعظيم قدرته.
" إنه هو العليم " أي بجميع الامور " الحكيم " في خلقه وشرعه وقدره.
وعند أهل الكتاب: أن يوسف باع أهل مصر وغيرهم من الطعام الذى كان تحت يده، بأموالهم كلها ; من الذهب والفضة، والعقار والاثاث، وما يملكونه كله، حتى باعهم بأنفسهم فصاروا أرقاء.
ثم أطلق لهم أرضهم وأعتق رقابهم على أن يعملوا، ويكون خمس ما يستغلون من زروعهم (2) وثمارهم للملك فصارت سنة أهل مصر بعده.
وحكى الثعلبي: أنه كان لا يشبع في تلك السنين، حتى لا ينسى الجيعان، وأنه إنما كان يأكل أكلة واحدة نصف النهار.
قال: فمن ثم اقتدى به
__________
(1) ليست في ا (2) ط: زرعهم.
(*)

الملوك في ذلك.
قلت: و [ قد (1) ] كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب،
رضى الله عنه، لا يشبع بطنه عام الرمادة حتى ذهب الجدب وأتى الخصب.
قال الشافعي: قال رجل من الاعراب لعمر بعد ما ذهب عام الرمادة: لقد انجلت عنك وإنك لابن حرة ! * * * ثم لما رأى يوسف عليه السلام نعمته قد تمت، وشمله قد اجتمع، عرف أن هذه الدار لا يقربها قرار، وأن كل شئ فيها ومن عليها فان، وما بعد التمام إلا النقصان، فعند ذلك أثنى على ربه بما هو أهله، واعترف له بعظيم إحسانه وفضله، وسأل منه - وهو خير المسئولين - أن يتوفاه، أي حين يتوفاه على الاسلام، وأن يلحقه بعباده الصالحين، وهكذا كما يقال في الدعاء: " اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين " أي حين تتوفانا.
ويحتمل أنه سأل ذلك عند احتضاره [ عليه السلام، كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عند احتضاره (2) ] أن يرفع روحه إلى الملا الاعلى والرفقاء الصالحين (3) من النبيين والمرسليمن، كما قال: اللهم في الرفيق الاعلى ثلاثا.
ثم قضى.
ويحتمل أن يوسف عليه السلام سأل الوفاة على الاسلام منجزا في صحة بدنه وسلامته، وأن ذلك كان سائغا في ملتهم وشرعتهم، كما روى عن ابن عباس أنه قال: ما تمنى نبى [ قط (2) الموت قبل يوسف.
__________
(1) من ا (2) سقطت من ا.
(3) الصلحاء.
(*)

فأما في شريعتنا فقد نهى عن الدعاء بالموت إلا عند الفتن ; كما في حديث معاذ في الدعاء الذى رواه أحمد: " وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين ".
وفى الحديث الآخر: " ابن آدم، الموت خير لك
من الفتنة ".
وقالت مريم عليها السلام: " يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ".
وتمنى الموت على بن أبى طالب، لما تفاقمت الامور وعظمت الفتن واشتد القتال، وكثر القيل والقال.
وتمنى ذلك البخاري [ أبو عبد الله (1) ] صاحب الصحيح، لما اشتد عليه الحال ولقى من مخالفيه الاهوال.
فأما في حال الرفاهية فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، إما محسنا [ فلعله (1) ] يزداد، وإما مسيئا فلعله يستعتب.
ولكن ليقل: " اللهم أحينى ما كانت الحياة خيرا لى، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيرا لى ".
والمراد بالضر هاهنا، ما يخص العبد في بدنه ; من مرض ونحوه، لا في دينه.
والظاهر أن نبى الله يوسف عليه السلام سأل ذلك، إما عند احتضاره، أو إذا كان ذلك أن يكون كذلك.
وقد ذكر ابن إسحق عن أهل الكتاب: أن يعقوب أقام بديار مصر عند يوسف سبع عشرة سنة، ثم توفى عليه السلام.
وكان قد أوصى إلى يوسف عليه السلام أن يدفن عند أبويه إبراهيم وإسحق.
قال السدى:
__________
(1) سقطت من ا (*)

فصبره وسيره إلى بلاد الشام فدفنه بالمغارة (1) عند أبيه إسحق وجده الخليل عليهم السلام.
وعند أهل الكتاب: أن عمر يعقوب يوم دخل مصر مائة وثلاثون سنة.
وعندهم أنه أقام بأرض مصر سبع عشرة سنة، ومع هذا قالوا: فكان جميع عمره مائة وأربعين سنة.
هذا نص كتابهم وهو غلط: إما في النسخة، أو منهم، أو قد أسقطوا الكسر وليس بعادتهم فيما هو أكثر من هذا، فكيف يستعملون هذه الطريقة [ هاهنا (2) ] ؟ وقد قال تعالى [ في كتابه العزيز (2) ]: " أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت، إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى ؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا، ونحن له مسلمون " يوصى بنيه بالاخلاص، وهو دين الاسلام الذى بعث الله به الانبياء عليهم السلام.
وقد ذكر أهل الكتاب: أنه أوصى بنيه واحدا واحدا، وأخبرهم بما يكون من أمرهم، وبشر يهوذا بخروج نبى عظيم من نسله تطيعه الشعوب، وهو عيسى بن مريم.
والله أعلم.
وذكروا: أنه لما مات يعقوب بكى عليه أهل مصر سبعين يوما، وأمر يوسف الاطباء فطيبوه بطيب ومكث فيه أربعين يوما.
ثم استأذن يوسف ملك مصر في الخروج مع أبيه ليدفنه عند أهله، فأذن له، وخرج معه أكابر مصر وشيوخها.
فلما وصلوا حبرون دفنوه (3) في المغارة التى
__________
(1) ا: في المغارة.
(2) سقطت من ا.
(3) ا: فدفنوه.
(*)

كان اشتراها إبراهيم الخليل من عفرون بن صخر الحيثى، وعملوا له عزاء سبعة أيام.
قالوا: ثم رجعوا إلى بلادهم، وعزى إخوة يوسف يوسف في أبيهم، وترققوا له فأكرمهم وأحسن منقلبهم، فأقاموا ببلاد مصر.
ثم حضرت يوسف عليه السلام الوفاة، فأوصى أن يحمل معهم إذا خرجوا من مصر فيدفن عند آبائه.
فحنطوه ووضعوه في تابوت، فكان
بمصر حتى أخرجه معه موسى عليه السلام، فدفنه عند آبائه كما سيأتي.
قالوا: فمات وهو ابن مائة سنة وعشر سنين.
هذا نصهم فيما رأيته وفيما حكاه ابن جرير أيضا.
وقال مبارك بن فضالة عن الحسن: ألقى يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة [ سنة (1) ] وعشرين سنة.
وقال غيره: أوصى إلى أخيه يهوذا، صلوات الله عليه وسلامه (2).
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: عليه السلام.
(*)


 
 

Document sans titre
 

Warning: main() [function.main]: open_basedir restriction in effect. File(/mnt/113/sdc/d/6/kutub/stats/php-stats.redir.php) is not within the allowed path(s): (/mnt/110/sda/d/6/kutub) in /mnt/110/sda/d/6/kutub/History/anbiya/013.php on line 740

Warning: main(/mnt/113/sdc/d/6/kutub/stats/php-stats.redir.php) [function.main]: failed to open stream: Operation not permitted in /mnt/110/sda/d/6/kutub/History/anbiya/013.php on line 740

Warning: main() [function.include]: Failed opening '/mnt/113/sdc/d/6/kutub/stats/php-stats.redir.php' for inclusion (include_path='/mnt/110/sda/d/6/kutub/include:.:/usr/php4/lib/php') in /mnt/110/sda/d/6/kutub/History/anbiya/013.php on line 740