المقتدر بالله : أبو الفضل جعفر بن المعتضد ولد في رمضان سنة اثنتين و ثمانين و مائتين و أمه رومية و قيل : تركية اسمها غريب و قيل : شغب
و لما اشتدت علة أخيه المكتفي سأل عنه فصح عنه أنه احتلم فعهد إليه و لم يل الخلافة قبله أصغر منه فإنه وليها و له ثلاثة عشر سنة فاستصباه الوزير العباس بن الحسن فعمل على خلعه و وافقه جماعة على أن يولوا عبد الله بن المعتز فأجاب ابن المعتز بشرط أن لا يكون فيها دم فبلغ المقتدر ذلك فأصلح حال العباس و دفع إليه أموالا أرضته فرجع عن ذلك و أما الباقون فإنهم ركبوا عليه في العشرين من ربيع الأول سنة ست و المقتدر يلعب الأكرة فهرب و دخل و أغلقت الأبواب و قتل الوزير و جماعة و أرسل إلى ابن المعتز فجاء و حضر القواد و القضاة و الأعيان و بايعوه بالخلافة و لقبوه [ الغالب بالله ] فاستوزر محمد بن داود بن الجراح و استقضى أبا المثنى أحمد بن يعقوب و نفذت الكتب بخلافة ابن المعتز
قال المعافى بن زكريا الجريري : لما خلع المقتدر و بويع ابن المعتز دخلوا على شيخنا محمد بن جرير الطبري فقال : ما الخبر ؟ قيل : بويع ابن المعتز قال : فمن رشح للوزارة ؟ قيل : محمد بن داود قال : فمن ذكر للقضاة ؟ قيل : أبو المثنى فأطرق ثم قال : هذا الأمر لا يتم قيل له : و كيف ؟ قال : كل واحد ممن سميتم متقدم في معناه عالي الرتبة و الزمان مدبر و الدنيا مولية و ما أرى هذا إلا إلى اضمحلال و ما أرى لمدته طولا
و بعث ابن المعتز إلى المقتدر يأمره بالانصراف إلى دار محمد بن طاهر لكي ينتقل ابن المعتز إلى دار الخلافة فأجاب و لم يكن بقي معه إلا طائفة يسيرة فقالوا : يا قوم نسلم هذا الأمر و لا نجرب نفوسنا في دفع ما نزل بنا فلبسوا السلاح و قصدوا المخرم و به ابن المعتز فلما رآهم من حوله ألقى الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا منهزمين بلا قتال و هرب ابن المعتز و وزيره و قاضيه و وقع النهب و القتل في بغداد و قبض المقتدر على الفقهاء و الأمراء الذين خلعوه و سلموا إلى يونس الخازن فقتلهم إلا أربعة منهم القاضي أبو عمر سلموا من القتل و حبس ابن المعتز ثم أخرج فيما بعد ميتا و استقام الأمر للمقتدر فاستوزر أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات فسار أحسن سير و كشف المظالم و حض المقتدر على العدل ففوض إليه الأمور لصغره و اشتغل باللعب و اللهو و أتلف الخزائن
و في هذه السنة أمر المقتدر أن لا يستخدم اليهود و النصارى و أن يركبوا بالأكف
و فيها غلب أمر المهدي بالمغرب و سلم عليه بالإمامة و دعي له بالخلافة و بسط في الناس العدل و الإحسان فانحرفوا إليه و تمهدت له المغرب و عظم ملكه و بنى المهدية و هرب أمير إفريقية زيادة الله بن الأغلب إلى مصر ثم أتى العراق و خرجت المغرب عن أمر بني العباس من هذا التاريخ فكانت مدة ملكهم جميع الممالك الإسلامية مائة و بضعا و ستين سنة و من هنا دخل النقص عليهم
قال الذهبي : اختل النظام كثيرا في أيام المقتدر لصغره
و في سنة ثلاثمائة ساخ جبل بالدينور في الأرض و خرج من تحته ماء كثير أغرق القرى
و فيها ولدت بغلة فلوا فسبحان القادر على ما يشاء !
و في سنة إحدى و ثلاثمائة ولي الوزارة علي بن عيسى فسار بعفة و عدل و تقوى و أبطل الخمور و أبطل من المكوس ما ارتفاعه في العام خمسمائة ألف دينار
و فيها أعيد القاضي أبو عمر إلى القضاء و ركب المقتدر من داره إلى الشماسية و هي أول ركبة ركبها و ظهر فيها للعامة
و فيها أدخل الحسين الحلاج مشهورا على جمل إلى بغداد فصلب حيا و نودي عليه : هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه ثم حبس إلى أن قتل في سنة تسع و أشيع عنه أنه ادعى الإلهية و أنه يقول بحلول اللاهوت في الأشراف و يكتب إلى أصحابه من النور الشعشعاني و نوظر فلم يوجد عنده شيء من القرآن و لا الحديث و لا الفقه
و فيها سار المهدي الفاطمي يريد مصر في أربعين ألفا من البربر فحال النيل بينه و بينها فرجع إلى الإسكندرية و أفسد فيها و قتل ثم رجع فسار إلى جيش المقتدر إلى برقة و جرت لهم حروب ثم ملك الفاطمي الإسكندرية و الفيوم من هذا العام
و في سنة اثنتين ختن المقتدر خمسة من أولاده فغرم على ختانهم ستمائة ألف دينار و ختن معهم طائفة من الأيتام و أحسن إليهم
و فيها صلي العيد في جامع مصر و لم يكن يصلي فيه العيد قبل ذلك فخطب بالناس علي بن أبي شيخة من الكتاب نظرا و كان من غلطه أن قال : اتقوا الله حق تقاته و لا تموين إلا و أنتم مشركون
و فيها أسلم الديلم على يد الحسن بن علي العلوي الأطروش و كان مجوسيا
و في سنة أربع وقع الخوف ببغداد من حيوان يقال له الزيزب ذكر الناس أنهم يرونه بالليل على الأسطحة و أنه يأكل الأطفال و يقطع ثدي المرأة فكانوا يتحارسون و يضربون بالطاسات ليهرب و اتخذ الناس لأطفالهم مكاب و دام عدة ليال
و في سنة خمس قدمت رسل ملك الروم بهدايا و طلبت عقد هدنة فعمل المقتدر موكبا عظيما فأقام العسكر وصفهم بالسلاح ـ و هم مائة و ستون ألفا ـ من باب الشماسية إلى دار الخلافة و بعدهم الخدام و هم سبعة آلاف خادم و يليهم الحجاب و هم سبعمائة حاجب و كانت الستور التي نصبت على حيطان دار الخلافة ثمانية و ثلاثين ستر من الديباج و البسط اثنين و عشرين ألفا و في الحضرة مائة سبع في السلاسل إلى غير ذلك
و في هذه السنة وردت هدايا صاحب عمان و فيها طير أسود يتكلم بالفارسية و الهندية أفصح من الببغا
و في سنة ست فتح مارستان أم المقتدر و كان مبلغ النفقة فيه في العام سبعة آلاف دينار
و فيها صار الأمر و النهي لحرم الخليفة و لنسائه لركاكته و آل الأمر إلى أن أمرت أم المقتدر بمثل القهرمانة أن تجلس للمظالم و تنظر في رقاع الناس كل جمعة فكانت تجلس و تحضر القضاة و الأعيان و تبرز التواقيع و عليها خطها
و فيها عاد القائم محمد بن المهدي الفاطمي إلى مصر فأخذ أكثر الصعيد
و في سنة ثمان غلت الأسعار ببغداد و سغبت العامة لكون حامد بن العباس ضمن السواد و جدد المظالم و وقع النهب و ركب الجند فيها و شتتهم العامة و دام القتال أياما و أحرق العامة الحبس و فتحوا السجون و نهبوا الناس و رجموا الوزير و اختلفت أحوال الدولة العباسية جدا
و فيها ملكت جيوش القائم الجزيرة من الفسطاط و اشتد قلق أهل مصر و تأهبوا للحروب و جرت أمور و حروب يطول شرحها
و في سنة تسع قتل الحلاج بإفتاء القاضي أبي عمر و الفقهاء و العلماء أنه حلال الدم و له في أحواله السنية أخبار أفردها الناس بالتنصيف
و في سنة إحدى عشرة أمر المقتدر برد المورايث إلى ما صيرها المعتضد من توريث ذوي الأرحام
و في سنة ثنتي عشرة فتحت فرغانة على يد والي خراسان
و في سنة أربع عشرة دخلت الروم ملطية بالسيف
و فيها جمدت دجلة بالموصل و عبرت عليها الدواب و هذا لم يعهد
و في سنة خمس عشرة دخلت الروم دمياط و أخذوا من فيها و ما فيها و ضربوا الناقوس في جامعها
و فيها ظهرت الديلم على الري و الجبال فقتل خلق و ذبحت الأطفال
و في سنة ست عشرة بني القرمطي دارا سماها [ دار الهجرة ] و كان في هذه السنين قد كثر فساده و أخذه البلاد و فتكه بالمسلمين و اشتد الخطب به و تمكنت هيبته في القلوب و كثر أتباعه و بث السريا و تزلزل له الخليفة و هزم جيش المقتدر غير مرة و انقطع الحج في هذه السنين خوفا من القرامطة و نزح أهل مكة عنها و قصدت الروم ناحية خلاط و أخرجوا المنبر من جامعها و جعلوا الصليب مكانه
و في سنة سبع عشرة خرج مؤنس الخادم الملقب بالمظفر على المقتدر لكونه بلغه أنه يريد أن يولي إمرة الأمراء هارون بن غريب مكان مؤنس و ركب معه سائر الجيش و الأمراء و الجنود و جاؤوا إلى دار الخلافة فهربت خواص المقتدر و أخرج المقتدر بعد العشاء و ذلك في ليلة رابع عشر المحرم من داره و أمه و خالته و حرمه و نهب لأمه ستمائة ألف دينار و أشهد عليه بالخلع و أحضر محمد بن المعتضد و بايعه مؤنس و الأمراء و لقبوه [ القاهر بالله ] و فوضت الوزارة إلى أبي علي بن مقلة و ذلك يوم السبت و جلس القاهر يوم الأحد و كتب الوزير عنه إلى البلاد و عمل الموكب يوم الاثنين فجاء العسكر يطلبون رزق البيعة و رزق السنة و لم يكن مؤنس يطلبون المقتدر ليردوه إلى الخلافة فحملوه على أعناقهم من دار مؤنس إلى قصر الخلافة و أخذ القاهر فجيء به و هو يبكي و يقول : الله الله في نفسي فاستدناه و قبله و قال له : يا أخي أنت و الله لا ذنب لك و الله لا جرى عليك مني سوء أبدا فطب نفسا و سكن الناس و عاد الوزير فكتب إلى الأقاليم بعود الخلافة إلى خلافته و بذل المقتدر الأموال في الجند
و في هذه السنة سير المقتدر ركب الحاج مع منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين فوافاهم يوم التروية عدو الله أبو طاهر القرمطي فقتل الحجيج في المسجد الحرام قتلا ذريعا و طرح القتلى في بئر زمزم و ضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره ثم اقتلعه و أقام بها أحد عشر يوما ثم رحلوا و بقي الحجر الأسود عندهم أكثر من عشرين سنة و دفع لهم فيه خمسون ألف دينار فأبوا حتى أعيد في خلافة المطيع
و قيل : إنهم لما أخذوه هلك تحته أربعون جملا من مكة إلى هجر فلما أعيد حمل على قعود هزيل فسمن
قال محمد بن الربيع بن سليمان : كنت بمكة سنة القرامطة فصعد رجل لقلع الميزاب و أنا أراه فعيا صبري و قلت : يا رب ما أحلمك فسقط الرجل على دماغه فمات و صعد القرمطي على باب الكعبة و هو يقول :
( أنا بالله و بالله أنا ... يخلق الخلق و أفنيهم أنا )
و لم يفلح أبو طاهر القرمطي بعدها و تقطع جسده بالجدري
و في هذه السنة هاجت فتنة كبرى ببغداد بسبب قوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } فقالت الحنابلة : معناها يقعده الله على عرشه و قال غيرهم : بل هي الشفاعة و دام الخصام و اقتتلوا جماعة كثيرة
و في سنة تسع عشرة نزل القرمطي الكوفة و خاف أهل بغداد من دخوله إليها فاستغاثوا و رفعوا أصواتهم و المصاحف و سبوا المقتدر
و فيها دخلت الديلم الدينور فسبوا و قتلوا
و في سنة عشرين ركب مؤنس على المقتدر فكان معظم جند مؤنس البربر فلما التقى الجمعان رمى بربري المقتدر بحربة سقط منها إلى الأرض ثم ذبحه بالسيف و شيل رأسه على رمح و سلب ما عليه و بقي مكشوف العورة حتى ستر بالحشيش ثم حفر له بالموضع و دفن و ذلك يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال
و قيل : إن وزيره أخذ له ذلك اليوم طالعا فقال له المقتدر : أي وقت هو قال : وقت الزوال فتطير و هم بالرجوع فأشرفت خيل مؤنس و نشبت الحرب و أما البربري الذي قتله فإن الناس صاحوا عليه فسار نحو دار الخلافة ليخرج القاهر فصادفه حمل شوك فزحمه إلى دكان لحام فعلقه كلاب و خرج الفرس من مشواره من تحته فمات فحطه الناس و أحرقوه بالحمل الشوك
و كان المقتدر جيد العقل صحيح الرأي لكنه كان مؤثرا للشهوات و الشراب مبذرا و كان النساء غلبن عليه فأخرج عليهن جميع جواهر الخلافة و نفائسها و أعطى بعض حظاياه الدرة اليتيمة و وزنها ثلاثة مثاقيل و أعطى زيدان القهرمان سبحة جوهر لم ير مثلها و أتلف أموالا كثيرة و كان في داره أحد عشر ألف غلام خصيان غير الصقالبة و الروم و السود و خلف اثني عشر ولدا ذكر و ولي الخلافة من أولاده ثلاثة : الراضي و المتقي و المطيع و كذلك اتفق للمتوكل و الرشيد و أما عبد الملك فولي الأمر من أولاده أربعة و لا نظير لذلك إلا في الملوك كذا قال الذهبي
قلت : في زماننا ولي الخلافة من أولاد المتوكل خمسة : المستعين العباس و المعتضد داود و المستكفي سليمان و القائم حمزة و المستنجد يوسف و لا نظير لذلك
و في لطائف المعارف للثعالبي ـ نادرة : لم يل الخلافة من اسمه جعفر إلا المتوكل و المقتدر فقتلا جميعا : المتوكل ليلة الأربعاء و المقتدر يوم الأربعاء
و من محاسن المقتدر ما حكاه ابن شاهين أن وزيره علي بن عيسى أراد أن يصلح بين ابن صاعد و بين أبي بكر بن أبي داود السجستاني فقال الوزير : يا أبا بكر أبو محمد أكبر منك فلو قمت إليه قال : لا أفعل فقال الوزير : أنت شيخ زيف فقال ابن أبي داود : الشيخ الزيف الكذاب على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : من ؟ فقال : هذا ثم قام ابن أبي داود و قال : تتوهم أني أذل لك لأجل أن رزقي يصل إلي على يدك و الله لا أخذت من يدك شيئا أبدا فبلغ المقتدر ذلك فصار يزن رزقه بيده و يبعث به في طبق على يد الخادم
مات في أيام المقتدر من الأعلام : محمد بن أبي داود الظاهري و يوسف بن يعقوب القاضي و ابن شريح شيخ الشافعية و الجنيد شيخ الصوفية و أبو عثمان الحيري الزاهد و أبو بكر البرديجي و جعفر الفريابي و ابن بسام الشاعر و النسائي صاحب السنن و الجبائي شيخ المعتزلة و ابن المواز النحوي و ابن الجلاء شيخ الصوفية و أبو يعلى الموصلي صاحب المسند و الأشناني المقرئ و أبن سيف من كبار قراء مصر و أبو بكر الروياني صاحب المسند و ابن المنذر الإمام و ابن جريري الطبري و الزجاج النحوي و ابن خزيمة و ابن زكريا الطبيب و الأخفش الصغير و بنان الجمال و أبو بكر بن أبي داود السجستاني و ابن السراج النحوي و أبو عوانة صاحب الصحيح و أبو القاسم البغوي المسند و أبو عبيد بن حربوية و الكعبي شيخ المعتزلة و أبو عمر القاضي و قدامة الكاتب و خلائق آخرون |